هناك خط فاصل وواضح وتبادل للأدوار بين الحكومة ومنظمات المجتمع المدني، فالأخيرة تقوم بما تتحرج الحكومات عن القيام به لأسباب تنظيمية أو لاعتبارات سياسية أو دبلوماسية. ويتعاظم ذلك الفصل حين تتصادم ما تراه الحكومات مبادئ وقيم مع مصالحها السياسية أو الاقتصادية، أو مع مبادئ وأعراف العلاقات الدبلوماسية. وهذا ما ادركته كثير من الدول الغربية حين تركت لمنظمات المجتمع المدني مهمة التقييم والتصنيف والنقد لكثير من دول العالم. فمثلا لم يسبق لحكومة الولايات المتحدة أو حكومة بريطانيا أن تدخلت في الشأن الداخلي الكندي أو زايدت عليها حول قضايا حوق الإنسان والتي تشير إليها التقارير الدورية لمنظمة هيومن راتس واتش الامريكية، أو منظمة العفو الدولية البريطانية، فهذه الدول تعرف الحدود الحمراء التي يجب احترامها وعدم تجاوزها.
يبدو أن وزيرة الخارجية الكندية وهي القادمة من دهاليز الصحافة لم تخلع قبيل دخولها مبنى وزارة الشؤون الخارجية قبعة الصحفية، ربما لأنها لم تدرك (ربما أنها لا تريد) الخط الفاصل بين العمل الصحفي والعمل الدبلوماسي، فاطلقت العنان لأصابعها على منصات التواصل الاجتماعية متقمصة شخصية الناشطة الحقوقية، وهو ما لا يليق بمن تتولى مسؤولية في حكومة بلادها، فلديها من المهام والوجبات ما يفترض أن يصرف نظرها عن قضايا ليست من اختصاصها.
أجزم أن الوزيرة لا تعرف عن قرب قضايا من دافعت عنهم بالاسم، ممن لم يفرقوا بين الشجاعة والتهور. المساس بالثوابت الدينية في مجتمع يشكل الدين العنصر الأساسي في نسيجه الثقافي لا يمكن وصفه إلا بالتهور. والدفاع عن المتهورين ومساعدتهم يفترض أن يكون في اللقاءات الخاصة وبأسلوب يتسم بالاحترام المتبادل، وبعيدا عن المزايدات الإعلامية.
الغريب في الأمر أن الوزير الكندية تغاضت عن متهورة كندية لم تراعي الثوابت السياسية في ألمانيا حين المحت بما يوحي بإنكارها للمحرقة، ودفعت حريتها ثمن لذلك بالسجن في ألمانيا، ولم نسمع من معالي الوزيرة مزايدة على القضاء الألماني على منصات التواصل الاجتماعي.
حرية الرأي والتعبير قيمة تعرفها وتتمناها كل الشعوب، لكن المسار نحو تحقيق ذلك ليس بالأمر الهين، فالوصول إلى ذلك يجب أن يوضع في سياقاته التاريخية والثقافية. فعلى سبيل المثال، القضاء الأمريكي والحكومة الأمريكية ظلت لأكثر من مئة وخمسين سنة عاجزة عن تطبيق مبادئ الحرية التي جاءت في التعديل الأول للدستور First Amendment بحجة عدم جاهزية المجتمع لتقبل تلك المبادئ.
من وجهة نظري، المزيدات الإعلامية للحكومات الغربية بقيم الحرية والعدالة ليس لها إلا نتائج عكسية، فهي في المحصلة الأخيرة تقدم المزيد من الحجج لمعارضي الإصلاحات والحقوق، وتشحن البطاريات لتبقي تلك الأسطوانة المشروخة المسماة “التغريب” دائمة الدوران.
إلى أن يأتوا بمثال لدولة اثمر تدخلهم السياسي بتطورها، سأبقى أقول للحكومات الغربية بما فيها الحكومة الكندية: فكونا من شركم.