أحدثت منصات التواصل الاجتماعي ثورة اتصالية غير مسبوقة، ثورة تغيرت معها كثير من معالم المشهد الإعلامي التقليدي بكل أبعاده السياسية والاقتصادية والثقافية، وعلى المستويات المحلية والعالمية. كانت البداية المذهلة مع وصول أول رئيس من أصول أفريقية (أوباما) إلى البيت الأبيض، وأعقب ذلك وصول أول رئيس من خارج المحيط السياسي (ترامب). فعلى من الرغم من الصراعات العرقية والتغيرات الديموغرافية في المجتمع الأمريكي والتي مكنت هذين الرئيسين من الفوز، إلا أن فضل منصات التواصل الاجتماعي سيبقى لا يمكن إنكاره.
وتلى ذلك زخم سلسلة من المقالات والتقارير عن دور هذه المنصات فيما عرف بـ “الربيع العربي”، ومنذ ذلك الحين، ونحن نشهد تداعيات متلاحقة لهذه المنصات، واختلطت في الفضاء العام سلبياتها مع إيجابياتها، وأتت بتغيرات جوهرية على المهنة الإعلامية، وتحديات على السياسيات الاتصالية والإعلامية للدول.
تباشر كثير من المراقبين والدراسين لتقنيات الاتصال بالتنظير لمفاهيم جديدة عن أهمية هذه المنصات ودورها في فتح منافذ جديدة في الفضاء العام لحرية الرأي، وتوسيع فرص المشاركة السياسية، وتعزيز الديمقراطية. لكن ظهرت على أرض الواقع فضائح وسلسلة لم تنتهي من المعلومات الكاذبة والاخبار المفبركة، مما نسف كثير من تلك التوقعات المتفائلة بالدور المأمول لمنصات التواصل الاجتماعي في تعزيز فرص حرية التعبير. واستيقظ العالم على انفلات اتصالي غير منضبط، تجسدت معالمه في الكثير من السلبيات التي لا يمكن إغفالها، وبدأت المناداة والمطالبات بتشريعات تنظم عمل هذه المنصات. وأتت هذه الدعوات من نشطاء وأكاديميون في دول تتبنى الديمقراطية وقيمها الليبرالية. ووصلت تلك المطالبات إلى الكونجرس وهو السلطة التشريعية لأقوى دولة نادت وتنادي بحقوق الانسان وحرية التعبير، حيث عقد عدة جلسات استماع شارك فيها مسؤولون من فيسبوك وخبراء ومتخصصون في الإعلام وتقنيات الاتصال.
يبدو أن التاريخ يعيد نفسه مرة أخرى حيال مفهوم حرية التعبير والدور المأمول من وسائل الاتصال في تعزيز قيم الديمقراطية والمشاركة السياسية. ساد في القرن التاسع عشر تفاءل بما يمكن أن تقوم به الصحافة في المشهد السياسي، وتنامى الاهتمام بمصطلح “السلطة الرابعة” للتعبير عن أهمية فتح المجال في الصحافة لحرية الرأي والتعبير لتساهم في الثورات الإصلاحية والتحول الديمقراطي. إلا إن تلك المثالية المتفائلة لم تصمد أما الاختبار الواقعي وما أملته السياقات السياسية والمصالح الاقتصادية، مما حدا برئيس جامعة شيكاغو بتشكيل لجنة في عام 1943 لدراسة وتقييم مبدأ “حرية الصحافة” السائدة في تلك الفترة. وبعد أربع سنوات من جلسات تداول وتفاوض وحوار شاركت فيها نخب ثقافية وإعلامية وأكاديمية تم التوصل إلى مصطلح “المسؤولية الاجتماعية” كمعيار أخلاقي لمفهوم حرية التعبير في وسائل الإعلام. وها نحن اليوم نشهد جدلا ومناداة لتقنين حرية التعبير على منصات التواصل الاجتماعي، والعودة إلى مبدأ المسؤولية الاجتماعية في مفهوم الحرية.
إبراهيم البعيـّز